تمهيد
تعتبر قضية المصادر فى التصوف الإسلامى من القضايا المهمة فى الفكر الإسلامى, وقد كانت وما زالت من أخطر الموضوعات التصوف الإسلامى : لأن الاعتراف بوجوده كعلم يتأسس على الإيمان بمشروعية مصادرهز
والباحث فى التصوف الإسلمى يندهش عند المطالعة إنتاج متناولى التصوف الإسلامى با البحث و التأليف.وذلك لما يراه من إصدار الأحكام المطلقة التى سنلتقى بعد القليل من نماذج منها, ( وقد أدلت معظم الإتجاهات الثقافية الأخرى بدولها فى الحلبة الصراع, فقج نجد : الفقهاء, والمفسرين, و المحدثين, وعلاماء الكلام, و الفلاسفة قدامى و المحدثين, والمستشرقين, وشمل الصراع كل القضايا هذا العالم العجيب, سواء تعلق الأمر بمصدر المعرفة وطبيعتها. أم تعلق با لقضايا العلمية التفصيلية, وخاصة تلك التى كانت محلا للمقارنة بين الإتجاهات الفكرية المختلفة, كما اتسم الصراع بالحدة والعنف إلى حد إنكار وجوده كعلم, وإلى حد التوجيه تهم خطيرة : تبدأ من الإنحراف و الابتداع وتنتهى إلى الزندقة المنحرفة.
وكان الصلاح المشترك - فى كل هذا – هو رد الحقائقالصوفية الى الأفكار و الملل والنحل الأجنبية المنحرفة.
وقد قاوم الصوفية المسلمون هذه الهجمات المتواليةمن خصومهم , محاولين نقض التهم المواجهة إليهيم وتلمس الجذور الإسلامية للتصوف, كما حاول الشيئ نفسه بعض الباحثين المعتدلين, وعندما أصفهم بالإعتدال فلست خاضعا لحكم الهوى أو العاطفة أو لأى عامل اّخر, ويرجع سبب وصفى لهم بذالك إلى مل رئيته لدى الأخرين غيرهم من غلو وتجن وإغفال لقواعد المنهج السليم, حيث يقرأ هؤلاء التراث الصوفية قراءة إنتقائية, فيأخذ منه ما يؤيد وجهة النطرهم فقط ويصدرون أحكامهم العامة منذ العطور الأولى من مؤلفاتهم. لنقرء مثلا هذه العطور من كتاب ( التصوف : المنشأ و المصادر ) حيث يقول مؤلفة فى المقدمة ( كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءو الى التصوف و الصوفية وأن الغلو والتطرفهو الذى جلب عليهم الطعن, وأوقعهم فى التشابه مع التشيع و الشيعة, ولكنى وجدت – كلما تعمقت فى الموضوع, وتأملت فىالقوم ورسائلهم, وتوغلت فى جماعتهم وطرقهن, وحققت فى سيرهموتراجمهم- أنه لا إعتدال عندهم كا لشيعة تماما, فإن الاعتدال فيهم كا لعنقاء فى الطيور, و الشيعى لايعد شيعيا إلاحيثما يكون مغاليا متطرفاو وكذالك الصوفى تماما, فإنه لا يعتقط اتصاف الخلق بأوصاف الخالق لا يمكن أن يعد صوفيا ووليا من أولياء الله.
ومن الطرائف أن ظنى ذلك ييجعلنى ويحثنى على أن أسمى مجموعة الكتابة عن المتصوف ( التصوف بين الإعتدال و التطرف ) ولكننى لما كتبت وجدت أن هذه الاسم لا يمكن أن يناسب تللك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتى أن وأجده
وكما كان هذا الباحث واضحا فى نفى الاعتدال عن الصوفية جميعا كان أكثر وضوحا فى ذكر أسباب ظهور التصوف فى البيئة الإسلامية ولنقرأ ما كتبه بعد حذيثه عن لمحات من حيات سيدنا رسولله وحياة اصحابه, وتابعهم رضواان الله عليهم أجمعين, وفى ذلك يقول ( ثم خلف من بعدهم خلف فتطرفوا , وذهبو بعيدا فى نعيم الدنيا وزخارفه, وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء, ودرت عليهم الأرض و السماء وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها وفتحت عليهم الآفاق فانغمسو فى زخارفها وملذتها وبخاصة العرب الفاتحون الغزات والغالبون الظاهرون فحصل رد الفعل فى نفوس المغلوبين المغتزوين و المقهورمن الماوالى والفرس والمفلبين وأصحاب النفوس الضعيفة المتناوية خاصة, فهربو عن الحياة ومناضلتها وجدها وكدها ولجأوا الى الخانفاوات والتكايا والزوايا والرباطات فرارا من المبارزة والمناضلة وصبغو هذا الفرار والإنهزام ورد الفعل صبغة دينية.ولون قداسة وطهارة وتنزه وقرابة , كما كان هنالك الأسباب ودوافع مؤثرات اخرى وكذلك أيد خفية دفعتهم إلى تكوين الفلسفة جديدة للحياة وطراز اٌخر من المشرب والمسالك وأسلوب جديد للعيش والمعاش, فظهر التصوف بصورة المذهب مخصوصة اعتنقه قوم وسلكه أشخاص ساذجون بدون التفكير كثير وتدبر عميق كمسلك للذهد ووسيلة التقرب الى الله غير العارفين بالأسس التى قام عليها هذا المسرب, والقواعد التى أسس عليها هذا المذهب بسذاجة فطرية وطيبة طبيعية كما تستر بقناعه وتنقب بنقابه بعض الآخرون لهدم الإسلام وكيانه, وإدخال اليهودية والمسيحية فى الإسلام وأفكارهما من جانب, و الزرادشتية والمجوسية والشعوبسة من جانب اخر, وكذالك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى, وتفويض أركان الإسلم والغام تعاليم سيد الريول ونسخ الإسلام وإبطال الشريعة بنعرة وحدة الوجود, وحدة الأدسان وإجراء النبوة وترجيح من يسمى بالولى على أنبياء ورسوله, ومخالفة العلم والتفريق بين الشريعة والحقيقة وترويح الحكايات والأباطيل والأساطيربإسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخرافات و التراعت)
وقد لخص هذا الكاتب فى هذه السطور جل التهم المواجهة للتصوفالإسلامى ألتى تعاملت مع قضية المصادر والتى قامت برده الى جذور غير إسلامية سواء كانت أديانا كتابية محرفة أو نحلا أرضية باطلة, أو أفكارا بشريا منحرفا.
ولم يأتى بجديد بل أعاد تكرارا التهم التى سبقه فى ايرادها كثير من المستشركين وأتباعهم علما بأن ( أصحاب هذا الاتجاه الرامى الى تفسير نشأة التصوف بعوامل الخارجية قد أغفلو الجانب الأكبر من تراث الصوفية فى حديثهم عن صلتهم بالله, وما تتطلبه من طاعة وعبادة كما أغفلوحديثهم عن الأخلاق , والإلها مات الصادقة ألتى أخضعوها المقياس الشريعة, ولم يلتفتو إلا إلى ملاحظة حديث بعض الصوفية عن الفناء أو وحدة الوجودأة الحلول, وليس التصوف كله هو تلك النظريات الأجنبية التى لا تمثل – بحسب النظرة الشاملة إلى الراث التصوف – إلا قطاعا عامشيا جزئيا لم يتيح له الا نتشار أو الذيوع بين السائر الصوفية , بل كان – عند الكثرة الساحقة منهم – موضع إنكار ومعارضة , وكان أصحاب -- عندهم – موضع النقض ومؤخذة ومعنى ذلك أن الإقتصار فى نشأة التصوف على المصادر الأجنبية وحدها ليس إلا نوعا من التعميم الذى يفتقر إلى الدقة ويحتاج إلى تحديد ) .
وهذا الاتجاه – فيما يبدو – كان وثيق الصلة باتجاه عام يرمى الى إرجاء العلوم الإسلامية إلى مصادر الأجنبية , فعلم الكلام القائم على الدفاع عن العقيدة الدينية ليس الا صورة من الفلسفة اليونانية عنج بعضهم.
و التفسير القران لدى المسلمين ليس الا تقليدا لطريقة سبق أن وضعها السريان فى شرحهم للكتب الفلسفية والمنطقية التى ترجموها إلى الغتهم , أم الفقه فيرى بعضهم أنه متأثر بالقلنون الرومانى , وينطبق ذلك – من وجهة نظرهم—على التصوف الذى يرجع إلى مصادرأجنبية إختلفت بإختلاف الدارسين , وترتب على ذلك تجاهل العوامل التى أدت إلى نشأته البيئية الإسلامية) .
فالقضية ليست مقصورة على التصوف الإسلامى فحسب بقدر ما هى حرب المعلنة على الإسلام وعلى المسلمين لتجريد هم من كل مزية وفضل ولكن إرتباطنا بموضوع التصوف يلزمنا بالحديث فى إطاره فقط, ومن هنا فإننا سنقوم بإيراد أخطر التهم الموجهة للتصوف الإسلامىفى موضوع المصادر , علما بأنن لن نناقش هذه التهم عند إيرادها بل سنقوم بالتعقيب عليها إجمالا ثم نورد الأصول الإسلامية للتصوف.
المبحث الأول
المصادر الأجنبية التى لتهم التصوف الإسلامي بالأخذ عنها :
فى هذه الفقرة نسوق الآراء التى ردت التصوف الإسلامى لمصادر غير الإسلامية, ملتمسين أوجه الشبه بين بعض الأفكار و الممترسات فى التصوف الإسلامى من جانب , والأديان الكتابية والنحل والفلسفات من جانب اخر, ونوردها حسب هذا الترتيب فيما يلى :
أولا : الأديان الكتابية :
ونقصد بها با الدين اليهودى و الدين المسيحى حيث نحاول فى هذه السطور ذكر بعض المسائل فى كلم الدينين التى من اجلها تم الحكم على منابع التصوف الإسلامى بأنها يهودية أو نصرانية.
(أ) اليهودية.
من أهم الأفكار لليهودية التى اتهم بها التصوف الإسلامى :
- نزعة التشبيه الغليظة التى أدت إلى القول بالوجود الواحد.
- ونظرية الكلمة.
- وفكرة الوصائط فى الخلقى و الصدور على وجه العموم .
ولا بد من الإشارة الآن إلى أمرين على جانب كبير من الأهمية :
الأمر الأول : التورة التى فى أيدى اليهود ليست هى التورة الحقيقية المنزل من السماء.
الأمر الثانى : اليهودية كدين كانت تحتوى على بعض النظرات العرفانية, كان الطابعها محاولة التوفيق بين الديانة اليهودية والفلسفة الإغريقية.
وقد حاول ( فيلون) اليهودى الإسكندرى المشهور ( تأويل ما ورد من التشبيه الغليظ فى التورة المحرفة و تعميم اله بنى إسرائيل ليصبح اله العالم كله , ولكنه يستخديم من التعبيرات ما يجعله رازحا تحت نير الوثنية: فالله أبو العلم نفسه.
والكلمة الأولى إبن الله البكر.
ولا يتحرز من إطلاق لسمية الألوهية على العالم والكواكب كما فعلت الأفلاطونية المحدثة من بعد.
وخلق آدم على الصرة.
وتقسيم المعرفة الى أربع درجات:
معرفة أدنى بالنظر الى مصنوعات .
ومعرفة عن طريق الوسطاء.
والثالثة تلحق الإنسان بالكلمة أو ( اللوغوس) الأعظم.
ثم إدراك الحق فى ذاته , وذالك عن طريق العبادة الباطنية الذهد)
والذى جعل أصحاب هذا الإتجاه يحكمون بالرد التصوف الإسلامى الى مصدر اليعودى يتمثل فى أمرين :
الأول : الأفكار اليهودية التى اتهم بها التصوف الإسلامى وانشار إليعا فى صدر هذه الفقرة.
الثانى : إحتمالات تأثير الإسلاميين باليهود من خلال اليهود أنفسهم الذين عاشرو العرب والمسلمين, كما كان لإسلام الكثير منهم تأثير فى التيار العرفانى فى الإسلم.
ولعلنا نلاحظ بعض الأسماء البارزة من اليهوط الذين أسلمو كوهب إبن منبه, وكعب الأحبار, وابن سبأ وغيرهم.
كما لا يخفى الظهور بعض الأسماء الشهيرة من الفلاسفة اليهودية فى البيئة اإسلامية مثل : إسحاق الإسرائيلى, وابن جبرول, وابن سيمون, وابن ميمون, وأبو بركات البغدادى, وكان للكثير منهم تأثير بالأفكار الغنوصية , وما جاء عن طريق الأفلاطونية المحدثة على وجه الخصوص.
(ب) المسيحية :
الباحثين الذين ردو التصوف الإسلامى المصدر المسيحى كان لهم حديث طويل حول هذه النقطة , فقد قامو برصد بعض الأفكاروالممارسات الصوفية ردها الى الجزور مسيحية.
والمستشركون – بطبيعة الحال – كانو أشهرو من بالغ فى تناول ه ه المسألة , والركيز عليها, والإلحاح بشأنها, وتابعهم بعض الباحثين المسلمين – عربا وغير عرب -- , ومن هذا الأسماء : جولدتسيهر,وبلاسيوس, والنشار, وإحسان إلهى ظهير.
ومن أهم الأفكار التى تسربت إلى التصوف الإسلامى من المسيحية – غند صحاب هذه الإتجاه – نظرية الكلمة , التى هى فى النصرانية واسطة بين الله والخلق, والتى اصطنعها بعض الصوفية فى التعبير النظريتهم فى الحقيقة المحمدية فى إعتبارها أول مخلوق خلقه الله, أو : أول تعين للذات الإلهيةفاضت منه بقية التعينات الأخرى من روحية ومادية , ولم تظهر هذه العناصر النصرانية واشباهها إلا بعد أن كان المسلمون قد إختلطوا با النصارى وأخذو يحاورونهم ويجادلونهم فى العقائد , فكان طبيعيا ينتشر بعض هذه العقائد النصرانية , وأن يعمل عمله فى البيئة الإسلامية, ويتردد فى أقاول الصوفية ومذهبهم فى الحب الإلهى وفيما يتصل به من إتحاد بين الرب والعبد , ومن حلول الرب فى العبد.)
أم أوجه الشبه فى السلوك بين الصوفية المسلمين و بين النصارى والتى يراها الباحثون أدلة للحكم على التصوف الإسلامى بأن منابعه نصرانية فمنها: الإعراض عن الزواج , ويسوك لنا الكاتب إحسان إلهى ظهير كثيرا من أقوال الصوفية مقارنا لها بالنصوص المسيحية فى نفس الموضوع , فمن أقوال الصوفية ما نقلوه عن إبراهيم بن أدهم فى قوله : ( إذا تزوج الفقير فمثله مثل رجل قد رقب السفينة , فإذا ولد له ولدا غرق ) , وما نقله عن الجنيد وهو قوله : ( أحب المريد المبتدىء أن يشغل قلبه بالتزوج)
ونفس الفكرة نقلها عن الغزالى فى قوله : ( ينبغى أن لا يشغل نفسه المريد نفسه بالتزوج , فإنه يشغل عن السلوك وينأس بالزوجة, ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى)
ونتمنى أن يتاح لنا فى المستقبل القريب بحث الموضوع الحياة الإجتماعية عند الصوفية المسلمين لنتعرف على وجهة نظر المحققين منهم فى هذا الموضوع.
ونعود الآن إلى إقتباسات هذا الكاتب من أقوال الصوفية المسلمين, حيث يعقب عليها بقوله : ( ولقد بوب الصوفية فى كتبهم أبوابا مستقلة فى مدح العزوبة وذم التزويج , وهذا الأمر لا يحتاج الى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزمو أنفسهم التبتل خلافا لفطرة الله التى فطر الناس عليها , تقليدا لهم وأتباعا لسنتهم, وإقتداء لمسالكهم ومشاربهم مخالفين أو امر الله تعلى و آوامر رسوله ) .
ثم يسوق بعض نصوص الإنجيل ليثبت للنقل واتأثير – من وجهة نظره -- , فينقل عن المسيح قوله : ( ويوجد خصيان خصو أنفسهم لأجل ملكوت السماوات , من استطاع أن يقبل فليقبل ) كما ينقل نصا آخر جاء فيه : ( وأم من جهة الأمور التى كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس إمرأة) .
ويختار الباحث نموذجا سلوكيا آخر يرتبط بقضية اللباس فيحكم حكما صريحا بأخذ الصوفية المسلمين عن رهبان النصارى , وفى ذلك يقول : ( وأما إلتزام الصوفية لبس الصوفية لكونه شعارا وعلامة لهم فأيضا مأخوذ من الرهبنة المسيحية لأنهم كان زيهم الخص بهم) .
وقد إعتمد على بعض الأقوال النقدية المباشرة التى لم يقصد منها قائلوها ما استخرجه منها من نتائج , ومن ذلك مانقله عن إبن الجوزى الذى أورد رواية جاء فيها : ( قدم حماد بن سلمة البصرة فجاءه فرقد السبخى وعليه ثوب صوف , فقال له حماد : ضع عنك نصانيتك هذا ..)
كما ينقل عن السهروردى قوله : ( كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف , ويأكل من الشجرة , ويبيت حيث أمسى) .
وقد سبققه المستشرقون إلى القول بذلك منهم : نولدكه و نيكلسون ومسينيون وجولد تسهبر.
ويتساءل الدكتور طلعت غنام قائلا : ( لماذ يقصر الباحثون أنظارهم على حياة المسيح وأقواله , والرهبان وأحوالهم حين يحاولون ربط الصوفية بالمصادر النصرانية ؟!
ولم لا يجوز أن يكون هذا التصوف أيضا كان مسايرة لطبيعة الحياة العربية الجاهلية ؟! , وقد كانت وقتئذ الحياة الخشنة لاحظ لها من ترف , ولا أثر فيها لنعومة , بحيث يمكن أن يقال : إن حياة الزهاد الصوفية فى الإسلام إنما هى إستمرار لهذه الحياة الخشنة البعيدة عن الزخرف والنعيم , والتى كان يحياها العرب الجاهلون بصفة العامة) .
ولم يعجب هذ التساؤل الباحث إحسان إلهى ظهير , بل هاجم تناول الدكتور طلعت غنام لقضية المصدر النصرانى هجوما ضاريا خلامن روح البحث العلمى , وتخلى عن الحيدة والإنصاف, فقام بنقل ما أورده الدكور غنام فهذ البحث وقدم لهذا النقل بقوله : ( والجدير بالذكر , ومن الأشياء اللافتة للأنظار أن كل من حاول تبرئة التصوف عن كونه مأخوذا ومقتبسا من رهبنة المسيحية لم يسأه الإنكار عن كون المسيحية إحدى المصادر الصوف , وأنه إستفاد منها ولو أنهم أصرو مع ذلك على كونه إسلاميا بحتا معارضين مع ما قالوه , ومناقضين مع ما أثبتوه, مقرين عليهم بالتعارض الفكرى, والتضارب لقول , وإنكار ما هو ثابت لايمكن رده ولا إنكاره , فيقول واحد من هؤلاء , ولا حظ الزحزدة الفكرية , والتناقض الشديد, والتعارض الغريب , والعجز الظاهر عن الدفاع,وضعف القوة وقاة الحيلة , مع الإنكار والإكرار فى وقت واحد, لاحظ, وإقرأ وإستمع , فيقول احد الكتاب ــ وهو دكتور فى العلوم ــ ردا على من يجعل النصرانية إحدى مصادر التصوف) .
ويقصد هذا الباحث بأقواله تلك الدكتور طلعت غنام ويعرف القارئ به بأنه الدكتور فى العلوم علما بأنه أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر كما أنه لم يكون من المتحيزين للتصوف الإسلامى والمدافعين عنه , بل على العكس من ذلك قام بالكتابة من خلال الاعتماد على منهج تحليلى نقدى ويتضح ذلك من خلال عرضه وصياغته للقضايا التى ختارها فى هذا الكتاب,ويكفى أن نورد هذه الفقرة التى ختم بها حديثه فى قضية المصادر إذ يقول : ( وهكذا بعد هذا البحث الموضوعى الموثق من المراجع العلمية القيقة لا يمكن أن يشك أحد فى هذا العلم ومصادره وأنها أجنبية مستوردة دخيلة على الإسلام , والإسلام منها براء ) .
وهكذا فإن الدكتور غنا يلتقى فى النتائج مع الأستاذ ظهير , مما يؤكد أنه يرى تماما من هذه التهم التى وجهها إليه الأخير , ويحق لنا أن نتساءل عن السبب فى تطاول هذا الباحث على الدكتور غنام : هل قرأ له ولم يفهم ؟! وخصوصا إذا علمنا أن لغته الأولى ليست هى العربية , أم أنه كان يقرأ قراءة انتقائية ناقصة ؟! .
ويبدو أن هذا الباحث قد أخذ على عاتقه مهمة التطاول على من يتوهم أنهم يخالفون الرأى, وآلى على نفسه أن يقوم بتجريهم بحق وبدون وجه حق , ويبدو ذلك من خلال عباراته وإطلاقه العمة , وولوعه بعض تركيبات اللغوية التى يفتعلها افتعالا مثل : التعارض الفكرى ــ التضارب القولى ــ الزحزحة الفكرى ــ التناقض الشديد ــ التعارض الغريب ــ العجز الظاهر عن الدفاع ــ ضعف القوة وقلة الحيلةــالإنكار و الإقرار فى وقت واحد, وقد لاحظت ذلك عليه من خلال مطالعاتى من لكثير من مؤلفاته , من ذلك مثلا تهكم بالإمام الأكبر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود و فى ذلك يقول : ( قال الشيخ الأزهر السابق نقلا عن سيده أحمد الدخدير أنه قال : ( فالآداب تطلب من المريد فى حق شيخه أوجبها تعظيمه و توقيره ظاهرا و باطنا , وعدم الاعتراض عليه فى أى شيئ فعله , ولو كان ظاهره أنه الحرام , ويؤول ما انيهم عليه....) فهل هناك ضلال بعد هذا الضلال , وتسفيه العقول بعد هذا كله ؟ ومن رجل جعل شيخا لأكبر جامعة إسلامية وأقدمها فى العالم) ولن نحاول الدخول معه فى معركة جانبيه تخرجنا من مواصلة عرض قضية.
ثانيا : الشيعة :
من مصادر التى اتهم التصوف الإسلامى بالأخذ عمها الفكر الشيعى , ويتحدث أستاذنا المرحوم الدكتور أمد محمد مصطفى عن التشيع قائلا : ( ربما لم يكن من المبالغة القول بأن التشيع كان أخطر قضية وجهها الإسلام على طول التاريخ , ولم يكن ذلك قاصرا على الناحية السياسية والحزبية , فإنه وإن إبتدأ بداية السياسة محضة فما لبث أن تطور الى قضايا عقيدية إعتقنتها اتجاهات متنوعة وسمت بالباطنية على وجه العموم, وابتلعت فى جوفها كل الوان الغنوص : الهندية والفارسية ....الخ ) ونستطيع رصد أهم القضاياألتى اتهم التصوف بأخذها عن التشيع فيما يلى :
- فكرة إنقطاع التكليف بدعو الوصول الى الحقيقة .
- فكرة التنظيم الصوفى من أقطاب و أبدال وغير ذلك .
- فكرة إحتواء القرآن على معنى ظاهر ومعنى باطن .
فبا لنسبة للفكرة الأولى عند الشيعة نقرأ لأحد أئمتهم قوله : ( من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر , ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر ) .
وقد اشترك بعض الضالين من الصوفية فى هذا القول من الشيعة , وفى ذلك يقول القشيرى عنهم (...وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة فعدوا قلة المبالات بالدين أوثق ذريعة , ورفضو التمييز بين الحلال والحرام ,ودانو بترك الإحترام وطرح الاحتشام , واستخفوا بأداء العبادات , واستهانو بالصوم والصلاة , وركضوا فى الميدان الغفلات , وركنوا الى اتباع الشهوات....الخ ) .
أما الفكرة الثانية , وهى التنظيم الصوفية من أقطاب و أبدال , فيذكر ابن تيمية أخذ الصوفية المسلمين لها عن الشيعة : ( وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة من الغوث الذى يكون بمكة , والأتاد الأبعة , والأقطاب السبعة , والأبدال الأربعين , والنجباء الثلاثمائة.
فهذه الأسماء الأسماء ليست موجودة فى كتاب الله ولا هى أيضا مأثورة عن النبى لا بإسناد الصحيح , ولا ضعيف محتمل الا لفظ الأبدال فقد روى فيهم حديث منقطع الإسناد عن على إبن ابى طالب مرفوعا إلى النبى أنه قال : ( إن فيهم ــ يعنى أهل الشام ــالأبدال أربعين رجلا , كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا ) ولا تةجد هذه الأسماء فى كلام السلف كما هى على هذا الترتيب ...
وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابد من كل زمان من إمام المعصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان الا به ...)
وأما فكرة الثالثة وهى إحتواء القرآن الكريم على ظاهر و باطن التى تشابهت بين الصوفية والشيعة , والتى حكم من التشابه على أخذ الصوفية من الشيعة .
والقول الظاهر والباطن من أهم ما ميز الفكرى الشيعى المتأثر باليهودية بواسطة عبدالله بن سبأ اليهودى المؤسس الحقيقى الأول لديانتهم ومذهبهم ( ثم أخذ المتصوف بدورهم أفكار الشيعة و معتقداتهم , فآمنوا بها واعتقدوها , وجعلوها من الأصول والقواعد للعصابتهم , فقالو مثلا ما قالته الشيعة والفرق الباطنية ).
ثالثا : النحل :
ونقصد بالنحل الت اتهم التصوف الإسلامى بالأخذ عنها الأفكار والممارسات البشرية الموجودة فى البيئة الهندية أو الفارسية , ونورد فى السطور الآتية الأسباب التى دعت الباحثين للحكم على التصوف الإسلامى بأن جذوره هندية أو الفارسية .
أ- النحل الهندية :
تجدرالإشارة فى بداية هذه الفقرة الى حديث الدكتور محمد غلاب عن التناسك الهمدى فى أصوله النظرية ومسالكه الملية , زكبار شخصياته ثم قيامه بعقد موازنة طيبة بين النقاط الأساسية فى التنسكين : الإسلامى والهندى , إلا أن دكتور غلاب نجا مما وقع فيه غيره من إصدار الأحكام الخاطعة التى ترد التصوف الإسلامى إلى هذا مصدر أو ذاك من المصادر الأجنبية التى لا تتمنى إلى الإسلام, ولا تصدر عنه , وقد صنع ذلك مثلا الباحث إحسان إلهى ظهير الذ أصدر ــ كعادته ــ حكما عاما يقول فيه :
(و أما كون التصوف و تعاليمه وفلسفته , أوؤاده و أذكاره , وطرق الوصول الى المعرفة , والمؤدية إلى الفناء مأخوذة مستقاة من المذاهب الهندية والمناوية والزرادشتية أيضا فلا ينكرها منكرا, ولا يردها احد ولا يشك فيها الشاك , بل إن كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين و المسلمين , حتى الصوفية أقرأو بذلك حيث لم يسعهم الإعتراف بهذه الحقيقة الظاهرة اجلية التى لايمكن تجاهلها ولا إغفالها ألبتة ) .
وقد حكم بعض المستشرقين ومن شايعهم من الباحثين المسلمين برد التصوف الإسلامى إلى منابع هندية , فقد عدد ( جلدتسيهر) فى هاذا الصدد الملاحظات المتعلقة بالمنهج التصفية والحلول والإتحاد و أوجه التشابه بين ( النرفان الهندية ) و ( الفناء الصوفية) ).
ويلخص أستاذنا محمد أحمد مصطفى جهود الباحثين حول هذه القضية فيقول : ( وإلى هذا ذهب أيضا كثرة من المستشر قين من أمثالا ( ثولك) فى كتابه ( التصوف و وحدة الوجود ) , و(فون كريمر ) فى ( تاريخ الأفكار البارزة فى الإسلام ) , وفيه يرى العنصر الهندى بارز لدى الصوفيين الشاهيرين : الحارث المحاسبى , و( ذى النون المصرى ) و ( دوزى) فى بحثه : ( مقال عن تاريخ الإتجاه الإسلامى ) وفيه يرى التصوف آتيا من الهند عن طريق فارس و حيث سادت فكرة صدور كل شئ عن الله ورجوعه وأن العالم لا وجود له من ذاته , فالموجد بحق هو الله , و ( براون) فى بحثيه : ( عام بين الفارسين ), ( وتاريخ الفرس الأدبى ),( وماكس هورتن) فى مقاله : ( فى أصل التصوف) وفيه يرى رجوع التصوف الإسلامى إلى الفلسفة الهندية عن طريق ( ميترا) و (مانى) فالمسلمون نفسهم يعترفون بذلك بالإضافة الى مظاهر عملية ونفسية أخرى, مثل : الرضا, واستعمال المخلاة , والسبح.
ويقدم ( نيكلسون ) دليلا آخر على الارتباك الاستشراقى إذ يرى سيادة الفلسفة الهندية فى الناحية العملية , ثم يتحول الى أفكار ( فون كريمر) و أمثاله فى رجوع التصوف غلى أصل هندى فارسى وخاصة فى وحدة الوجود ,ثم يرى آخرا رجوعه إلى أصل الإسلامى.
وقد تابع المستشرقين معظم الباحثين العرب والمسلمين ولا تخرج آراؤهموأدلتهم عن تلك الآراء والأدلة : ونشير منهم الى ( النيال) فى كتابه : ( الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامى ) و الدكتور ( قاسم غنى ) فى : ( تاريخ التصوف ف الإسلام) و الدكتور ( عبد القادر محمود ) فى كتابه ( الفلسفة الصوفية فى الإسلام) .
ولكننى عثرت على وجهة نظر مضادة , وهى للمستشرق جفرى بارندرالذى حاكم بتأثير التصوف الإسلامى فى الفكرى الهندوسى وليس العكس , بل إت الصوفية المسلمين كانوا من أهم العوامل التى جعلت أكثر من خمس يكان شبه القارة الهندية يعتنقون الإسلام , ونفى نفيا قاطعا أن يكون للحكام المسلمين الجدد أى دور لإخضاع سكان البلاد الأصليين لاعتناق الإسلام وفى ذلك يقول (....فالحكام المسلمون لم يفكروا قط فى وضع خطة لتحويل عقيدة السكان إلى الإسلام , ولم يهتموا بتشجيعه, رغم أنهم أعطو أنفسهم ما يبرر تخريب المعابد , وقمع التمرد بحجة تحطيم الأوثان القديمة , ونشر العقيدة الإسلامية.
ولا بد أت يكون التحول إلى الدين الجديد قد جاء من مصدر آخر مختلف أتم الاختلاف , وأعنى به فارس أو الشيوخ جابوا الريف مبشرين بديانة الحب الصوفى لله و للبشر, و أقاموا صوامع أو خلوات مفتوحة لجميع طبقات المجتمع للعبادة الجماعية والتأمل الصوفى , ولقد ضربت الصوفية على كثير من الأوتار الحساسة عند الهندوسية , لاسيما حركة ( بختى) ( محبة الله ) فى المذهب الفشنية على ضرورة وجود مرشد والانصياع له والإقتراب من الله عن طريق الحب
.والإعتماد على النعمة الإلهية , وأهمية الإستغراق فى التأمل , ومراحل الطريق للإتحاد مع الله , وفى الأماكن التى لم يتم فيها التحول الدينى ( إلى الدين الجديد وهو الإسلام ) أثر شيوع الأفكار الإسلامية ورواجها بقوة والأ فكار الإسلامية ورواجها بقوة فى الفكر الهندوسية من خلال الصوفية ) .
إذن نحن أمام وجهتى نظر متعارضتين فبأيتهما نأخذ ؟ أنأخذ بالتى ردت التصوف إلى جذور النحل الهندية ؟ , أم نأخذ بتلك جعلت التصوف الإسلامى قائما بدور ملحوظ فى نشر الإسلام فى شبه القارة الهندية ؟ وجعلته ذا تأثير من النحل الموجودة فى البيئة الهندية.
ولن نتسرع بقبول هذه ورفض تلك أو العكس , بل سنرجى ء الحديث ليكون الرد أشمل بعد الإيراد كل التهم عندما يتم النظر إليها من منظور التأثير و التأثر فى الثقافة الإنسانية على وجه العموم.
( ب) انحل الفارسية :
من المقطوع به تاريخيا أن أنوار الدين الإسلامى وصلت الى بلاد الفرس فى عهد الفتوحات الإسلامية, ومن هنا دخخل سكان البلادى الأصليون فى دين الله أفواجا, ومن هنا التقى الإسلام وعقائده وتعالميه بالأفكار والممارسات السلوكية الموجودة فى البيئة الفارسية , وهذا التلاقى هو أول الأسباب التى جعلت الباحثين يحكمون بالجذور الفارسية للتصوف الإسلامى , ويرون السبب الثانى هو وجود طائفة من شيوخ التصوف البارزين فى الفرس. ( ولقد كان الأثر الفارسى والثقافات الفارسية واضحا فى الثقافات الإسلامية وخاصة المترجمة منها وبنوع خاص فى العصر العباسى , فلقد كان ذلك العصر حافلا بكثير من حملة العلم وأصحاب النحو وأهل الحديث والتفسير والمتكلمين , وغيرهم من الصفوة الممتازة الذين كان سوادهم الأعظم فرسا عاشو ا فى ظل الإسلام , بالإضافة إلى قوة الصلات الاجتماعية و السياسة بين الفرس و المسلمين التى كانت سائدة آنذاك )
فإذا عدنل إلى السمات الخاصة بالثقافة الفارسية وجدنا أنهم بقدسون بعض عناصر الطبيعية , بينما الخاصة منهم يجعلون معبودهم ( ميترا ) أو ( أهورا مازدا) , وظلو على العقائد حتى جاء ( زرادشت) الذى ركز على فكرة الخلاص النفس , ويخرج من مرحلة الآلهة المتعددة أو المحلية الى وصف ( أمورا مازدا ) بأنه إله الكون كله , وليس له خصم سوى ( أهرمن) .
وقد دار جدل كبير حول هذا الثنائية إلى أن أعلن فريق من رجال الدين أن ( أهرمن) ليس خصما للإله الأعلى , ولكنه مقابل ( روح القدس فى مازدا) والفكرة لها علاقتها بالإنسان ألول عند الفرس كما لها مشابهاتها عند الصوفية المسلمين , وخاصة فيما يتعلق بالإنسان الأول والإنسان الكامل.
ثم جاء مانى الذى يعد مذهبه عند الباحثين مزيحا من حاته النفسية المتشائمة المتنسكة, والزرادشتية , والبراهمية , والمسيحية قبل سيادة المجامع وقوانينها الكنسية, وأهم ما يسترعى الإنتباه فى مذهبه : تصويره النشأة العالم تصويرا هنديا أى فى مذهب الصدور, وثنوية الخير و الشر المفرطة, فلم تكن بهذه الحدة عند سلفه زرادشت, كما تعتبر فكرته عن الإنسان الأول تمثيلا للصراع حول هذين المبدأين , وكان أكثر تشاؤما من زرا دشت حين رأى وجوب التخلصمن قيود الجسم وإبادة العنصر البشر بواسطة حظر الزواج, وغير ذلك من الوسائل.
ومن أشهر العقائد الفارسية اليى اتهم التصوف الإسلامى بالأخذ عنها : القول بالرجعة , والتناسخ , ودعوى الألوهية , والإمام المعصوم , والحقيقة المحمدية , والحلول , وتقديس البشر , مع الأخذ بعين الإعتبار أن كثيرا من الفرس رغم اعتناقهم الإسلام ظلوا متمسكين بآرائهم القديمة , وكانو مستعدين لعبادة الخليفة كعبادتهم لملوكهم من قبل.
وتاقوا الى أمير مؤوله , وقامت فعلا محاولة لتأليه الخليفة قامت بها فرقة متعصبة ذات أصول فارسية عرفت بالروندية , وشقت عصا لطاعة عندما رفض الخليفة المنصور أن يعامل كإله, ورما بقادتهم فى غياهب السجون .
تلك الأفكار والبدع التى شاعت منذ بداية الدولة العباسية بدأت تتسرب إلى مذاهب الشيعة المتطرفة التى ذهبت الى تقديس ابناء على, وترى أن نفحة إلهية مقدسة تحل فى الأئمة.
وكانت المجوسية هى أهم عقائد الفرس التى أرادوا إحيائها وإلى جانبها المزديكية والمانوية , كذلك إنتشر الغنوص القائل بثنوية المبادئ : الخير والشر, أو النور والظلام, وازدادت شعوذات الفرس وعقائدهم اللاعقلانية .
( وقد سرت المانوية إلى عقاد الفرس والمسيحية والإسلام إذ تأثر بها بعض المفكرين , ويقال : إن الحلاج قد تأثر بالغنوصية , وقد إنتهى أمره بأن حكم عليه بالقتل ...)
وتجدر الإشارة هنا إلى قيام الدكتور إبراهم الدسوقى شتا المتخصص فى الدراسات الفارسية برصد أوجه التلاقى والتبادل بين التصوف الإسلامى والفكر الموجود على الساحة الفارسية بما فيه التصوف, وقد ارتأى الدكتور شتا أن التصوف الإسلامى فى فارس كان له روافد عدة منها : النحل الهندية, والأفلاطونية المحدثة , والزرادشتية , والمناوية . وبعد تفصيل القول فى ذلك عقب قائلا : ( وإلى جوار هذا التراث ــ وبسيطرة أشد ــ كان الإسلام , فهو المنطلق الرئيس والبوتقة التى تفاعلت فيها كل هذه الأفكار , والإطار الذى ضمها وألف بينها , وحورها ومنحها الروح فالعارف مسلم وموحد قبل كل شيئ , ولم يكن من المسطاع أن يحط العارف من قدر الشريعة أو يتجاهلها) .
رابعا : الفلسفة :
فى هذه الفقرة تناول أهم السمات الفلسفية التى اتهم التصوف الإسلامى بالأخذ عنها , ونلتزم فى إيراد ها بالترتيب التاريخى فنعرض أولا للفلسفة اليونانية , ثم نثنى بالأفلاطونية المحدثة.
(أ) الفلسفة اليونانية :
انتقل الفكر اليونانى القديم الى الجو اإسلامى فى عصر الترجمة , وتعرف المسلمون على المدارس الفلسفية اليونانية من الأيونية والإيلية والفيثا غورية والسوفستائية , وفلاسفة اليونانية الكبار : سقراط ــ أرسطوــ أفلاطون.
ونقصر حديثا فى هذا الفقرة عن بعض الأمور التى تلمسها الباحثون وحكمو ا من خلالها عن التصوف الإسلامى بأنه ذو جذور فلسفية يونانية , ومن ذلك : السلوك العملى لسقراط الذى صدر فيه عن الشهار الفلسفى الشهير الذى وجده على جدران المعبد دلفى , وهو : أعرف نفسك بنفسك , الذى عبر عنه هذل الحديث الذى راج فى الوسط الصوفى : ( من عرف نفسه , عرف ربه ) , ورغم أنه غير صحيح ألا أن معناه قد يكون مقبولا على ضوء قول الحق تبارك وتعالى : ( وفى أنفسكم أفلا تبصرون) .
و أفلاطون الذى كان له تأثيره البالغ فى الفكر الإسلامى سواء فى التيار الكلامى عند المععتزلة , أو التيار الفلسفى الكندى والفارابى و إبن سينا وغيرهم , والتسار الأخلاقى عند إبن مسكويه, والتيار الصوفى الإسلامى وخاصة لدى ( إبن مسرة) و ( إبن عربى) و( إبن سبعين ) و( التسترى) ) وغيرهم , وخاصة فى أفكار : طريق المعرفة , و المثل.
ويحذر أستاذنا المرحوم الدكتور محمد أحمد مصطفى من نقطة هامة خاصة بالفكر الأفلاطونية فيقول ( وينبغى الحذر من الخاط بين الألاطون الحقيقى والمزيف فقد وصل الى المسلمين تحت أثواب متعددة مختلطا بمذاهب أخرى ومن أبرزها ( الأفلاطونية المحدثة)
كما يدافع عن التيار الصوفى الإسلامى محاولا إيجاد مبررات لإبطال القول بتأثره بالفكر الأفلاطونى فيقول عن الأفكار المتشابهة بين التصوف و فلسفة افلاطونية: ( يمكن أن يكون للصوفية فى بعضها مستند كالقول بنظرية المعرفة وأنها تذكر , وللكن لم يقولوا ــ مطلقا ــ بالمثل , فعلى الرغم من القول بأزلية الممكنات فى العلم الإلهى إلا أنها ظلت دائما جزئية لا كلية كما هى عند أفلاطون.
أضف إلى ذلك أنهم تجنبوا خلط النصوص الأفلاطونية , أو على الأقل تفسيراتها بين المثل والحق , ولم يبلغ بهم القول بالنظرية إلى القول بالنتائج كما فعل أفلاطون)
وقداتهم التصوف الإسلامى ــ كذلك ــ بالأخذ عن الفلسفة الفيثاغورية , ومن عقائدها : التوحيد عن طريق العدد , والتناسخ, واتصال النفس بالبدن , وخلود النفس بالبدن , وخلود النفس , وأزليتها , وخلاصها بالتطهر.
ومنهجها فى السلوك ينبغى على : الزهد والتنزه عن بعض الشهوات , وإعتمدت فى وسائل التصفية النفسية على أمرين : علم الرياضة , وعلم الموسيقا.
وقد كان من الواضح تأثير الرواقية فى الفكر الإسلامى فى التيار الفلسفى عند الكندى و إبن سينا , وفى التيار الكلامى عند الشيوخ المعتزلة كالجاحظ و النظام , وبعض الأشعرية كا لباقلانى والجوينى .
وقد أضف بعض تأثير التيار الصوفى بالتزمت الخلقى الرواقى, ونظريات الكلمة أو النور المحمدى والتجسيم , وخاصة بعد الدراستين الهامتين اللتين قام بيهما كل من : الدكتور سامى النشار , والدكتور عثمان أمين فى دراسته الفلسفة الرواقية.
( ب) الأفلاطونية المحدثة :
يلاحظ الباحثون من مستشرقين و غير مستشرقين تسرب بعض أفكار الأفلاطونية المحدثة إلى التصوف الإسلامى.
ويصرح الدطتور أبو وفا التفتازانى بأنه ( ليس من شك من فلسفة أفلوطين السكندرى التى تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة فى الحال الغيبة عن النفس وعن العلم المحسوس كان لها أثرها فى التصوف الإسلامى فيما نجده من كلام متفلسفى الصوفية عن المعرفة, وكذالك كان لنظرية أفلوطين السكندرى فى الفيض , وترتب الموجودات عن الواحد أو الأول أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردى المقتول, و محي الدين إبن عربى, و ابن الفارض, وعبد الحق بن سبعين , وعبد الكريم الجيلى , ومن نحا نحوهم) .
وفى هذه السطور نرى النظرة النقدية للدكتور التفتازانى , وهو من صوفى العصر الكبار بل كان شيخ شيوخهم عليه رحمة الله, ولم يمنعه ذلك من تناول قضية المصادر بهذا المنهج النقدى.
وبذكر الدكتور قاسم غانى بعض النماذج الأفلاطونية الحديثة التى شقت طريقها الى التصوف الإسلامى , وفى ذلك يقول ( إن طريق الوصول الى المبدأ الحصول على التمتع الأبدى, وهو تطهير النفس السفلية عن طريق التجرد من الشهوات الجسمنية , والميول الحسية, وممارسة الفضائل الأربع , وهى العفة, والعدل , والشجاعة, الحكمة, هذه نماذج من آراء الفلسفة الأفلاطونية الحديثة التى وفق المسلمون بينها وبين الشرع الإسلامى , ولهذا الغرض حذفوا منها أشياء, وزادوا عليها أشياء, وسموها ( حكمة الإشراق ).
وقد أثر فى التصف والعرفان ذيوع آراء أفلاطون , وظهور الفلسفة الأفلاطونية الحديثة بين المسلمين أكثر من أى شيئ , وبعبارة الأخرى : أحرز التصوف الذى كان الى ذلك الحين زهدا عمليا أساسا نظريا و علميا.
وإذ دققنا فى آراء الأفلاطونية الحديثة وجدنا أن الصوفى الذاهد الذى غض الطرف عن الدنيا وما فيها يحكم أنها فانية, وتعلق خاطره بما هو خالد يشعر بالذة فى فلسفة أفلوطين , بل يحصل على منتهى غايته فى تلك الآراء, وموضوع وحدة الوجود فى الفلسفة الأفلاطونية الحديثة جذب أنظار الصوفية أكثر من أى شيئ آخرلأن الذين يؤمنون بهذه العقيدة يرون أن العالم كله مرآة لقدرة الحق الله تعالى , وكل موجود بمثابة مرآة تتجلى فى ذات الله فيها أن المرايا كلها ظاهرة, والوجود المطلق والموجود الحقيقى هو الله , وينبغى على الإنسان أن يسعى حتى يمزق الحجب , ويجعل نفسه محلا لتجلى جمال الحق الكامل ويبلغ السعادة الأبدية. .
وقد أدلى بدلوله فى هذه القضية على سبيل المثال من المستشرقين ( نيكلسون) فى كتابه ( التصف الإسلام و تاريخه ) وفصل القول فيها من الباحثين الدكتور ( عبد القادر محمود ) فى كتابه ( الفلسفة الصوفية فى الإسلام ) و الدكتور ( طلعت غنام) فى كتابه ( أضواء على التصوف ) و الدكتور ( صابر طعيمة) فى كتابه ( الصوفية : معتقدا ومسلكا) و الدكتور ( محمد مصطفى ) فى كتابه القيم ( علم التصوف ) وغيرها .
ويعترف أستاذنا المرحوم الدكتور محمد أحمد مصطفى بوجود نوع من التلاقى الفكرى بين الأفلاطونية الحديثة وبين التصف الإسلامى إلا أنه يذكر جوار ذلك الفروق الأساسية فيما بينهما , وفى ذلك يقول عليه رحمة الله : ( وعلى الرغم من وجود مناظرات لأفكار هذه المدرسة فى التصوف الإسلامى , فإنه يفتقر وإياها فى طريق المعرفة , وفى قضاياها.
فى طريق المعرفة : فى أنه عند الصوفية إسلامى اتباعه.
وفى القضايا : لأن الإشراق ليس فى الحقيقة سوى الإلهام الإسلامى المباشر.
والتوازى بين العوالم لا يبلغ الى القول بالمثل كما تمثلت عندهم وعند أفلاطون , وقد أشرنا الى إختلافهم فى نظرية الصدور مما يبعدهم عن الشبهة الوثنية والتأليه لغير الحق.
أما فيما يتعلق بعلو الحق فإنه يتجاهل جمع الصوفية بين النفى والإثبات فى الصفات , فلم يقلعو الصلة بين الحق و صفاته كما فعل المعتزلة و الفلاسفة , ولم يغلوا مرحلة الشبيه و التجسيم بإثباتهاز) .
- تعقيب على الآراء التى ردت التصوف الإسلامى الى مصادر الأجنبية.
إنتهينا فى الفقرة السابقة من عرض بعض الأفكار النظرية والممارسات العملية التى رأى الباحثون فى التصوف الإسلامى أن لها أشباها ونظائر فى اليهودية و النصرانية , وعند الشيعة , وفى النحل الهندية والفارسية, وفى الفكر الفلسفى عند اليونان , و فى الأفلاطونية المحدثة , مما جعلهم يحكمون برد التصوف الإسلامى لهذا المصدر أو ذاك من المصادر السابقة.
والقضية بهذا الشكل من التناول تنطوى على إفتقاد للمنهج العلمى السليم الذى يضع الأمير فى نصابها , فلا يحكم بأخذ اللاحق عن السابق الا بعد العثور على أدلة تقترب من اليقين اقترابا واضحا , ومن ناحية أخرى فإن هذا التناول ينبغى على انعدام النظرة الموضوعية التى لا تبتغى سوى إصابة الحق وحده دون أن تتلون بثقافة معينة , أو تصدر عن هوى شخصى , وما شابه ذلك.
إن قضية المصادر فى التصوف الإسلامى ترتبط إرتباطا وثيقا بقضية التأثير و التأثر فى الثقافة الإنسانية على الوجه العموم , وقد كان لروادنا عطاء طيب فى هذه النقطة , لنقرأ ما كتبوه المرحوم الدكتور غلاب فى هذا الموضوع فى مقدمة كتابه القيم : التنسك الإسلامى : ( بقيت نقكة أخيرة نود أن نشير إليها قبل الانتهاء من هذه المقدمة , وهى ما نشاهده من هيام بعض الكتاب بمحاولة إثبات المحاكاة والتقليد بين كل إنتاجين متشابهين , وهى لوثة بغيضة لامسوغ لها ألبتة , لأن الفطر السليمة, و الطرق المستقيمة , والأنهاج القويمة تلتقى كلها تحت سماء الحقيقة العليا متعانقة مترابطة لا مباينة بينها لا تعارض , وأنه كثير ما توجد أوجه شبه متماثلة أشد التماثل دون أن يكون هناك أدنى أثر للاستعارة أو المحاكاة , وإنما هى ( فطرة الله التى فطر الناس عليها ).
ويتفق أستاذنا الدكتور محمود حمدى الزقزوق مع وجهة نظر دكتور غلاب تلك , ويتقاسمها معه ولكنه يتميز بهدوء النبرة بالمقارنة مع حدة الدكتور غلاب الواضحة فى النص السابق , وفى ذلك يقول الدكتور زقزوق : ( وهكذا فإنه إذا كان التصوف فطرة بشرية , وظاهرة إنسانية عامة فليس هنلك مبرر على إطلاق لمحاولة البحث عن جذور التصوف الإسلامى فى غير الإسلام , وذلك بالبحث عن هذه الجذور فى التصوف الهندى أو الفارسى أو المسيحى , أو غير ذلك من نزعات روحية لدى شعوب أخرى, فلم تختص الأمم دون غيرها بهذا الجانب الروحى الملتصق بالإنسان أينما كان و أنى كان) .
فالتصوف يمثل نزعة إنسانية عامة يمكن القول بأنها ظهرت فى كل الحضرات البشرية على نحو من الأنحاء , وقد أفصحت فيه الروح عن أشواقها العميقة فى التطهر, والاستعلاء على كثافة المادة, و التطلع الى تحقيق مستوى أعلى من الكمال.
و يستطيع الدارسون للتصوف المقارن أن يضع أيديهم على بعض النقاط والمسائل المشتركة, التى لا تكاد يخلو منها النظام صوفى, ولكنهم يستطيعون ــ كذلك ــ أن يتلمس بعض المسائل المتميزة بسبب ما يحيط با لتصوف من مؤثرات وملابسات تتعلق بمصادر التوجيه الروحى, أو بظروف الواقع الاجتماعى , أو تتصل بما أوضع الله تعالى فى النفس الإنسانية من المواهب و الملكات والخصائص. .
والدارسون الذين قامو بالبحث فى التصوف الإسلامى حاول نفر مفهم رد التصوف الإسلامى الى بعض المصادر الأجنبية كما سبقت الإشارة إلى ذلك , ولكنهم للأسف حاول كل منهم العودة بالتصوف الى مصدر يرتبط بنوع ثقافته الخاصة, والدكتور عبد الميد مدكور وجهة نظر جديرة بالاعتبار حول هذه النقطة يقول فيها : ( يلاحظ أن أكثر الآراء قيلت لتفسير نشأة التصوف بمصادر أجنبية قد لجأت إلى تفسيره بمصدر واحد كان يختلف باختلاف ثقافة الدارسين , فالدارس الثقافة الهندية كان يرجع التصوف إليها , والمطلع على الثقافة اليونانية كان يجعله صورة منها , وأثرا من آثارها , وكذلك من يفعل من له صلة بدراسة التصوف المسيحى أو الفارسى وهكذا.
ويترتب على هذا التفسير بمصدر واحد أننا نجد شيئا واحدا ــ وهو التصوف ــ قد فسر المتصوف بمصدر متعارضة يلغى بعضها بعضا , كما يترتب عليه ــ أيضا ــ أن صاحب يعجز عن تفسير ظواهر أخرى لا يمكن تفسيرها بالمصدر الذى إختاره) .
ومن هنا تبين لنا أن تفسير نشأة التصوف بمصدر أجنبى واحد لا يتفق مع الحقيقة ولا يقترب منها , بل يحتاج الى منهج يتسم بالدقة و التحديد, وقد رفض كثير من الباحثين رد التصوف الى مصدر أجنبى واحد رغم ميلهم الواضح , وإعتقادهم أن التصوف دخيل على الإسلام مثلما صنع الدكتور طلعت غنام مع المصدر الفارسى الذى يذهب بعض الدارسين الى رد التصوف الإسلامى أليه , وفى ذلك يقول : ( أما أن التصوف الإسلامى مستمد من أصل فارسى لأن فريقا كبيرا من شيوخ الصوفية كان من أصل فارسى فهذا ما يحتاج الى بحث وتدقيقى.
لقد كان كثير من صوفية الفرس آثار ومعالم واضحة فى التصوف الإسلامى لا يمكن أن تمحى من تاريخ الحياة الروحية الإسلامية بصفة عامة وفى تطور التصوف واستحالته الى علم بصفة خاصة.
وذلك أمثال : معروف الكرخى , و أبو يزيد البسطامى غير أنه لايمكن القول بان تطوير الحركة الصوفية و ازدهار الحياة الروحية يرجع الى صوفية الفرس وحدهم , وإنما كان لغيرهم جهود قوية شاركت فى هذا المضمار أمثال أبو سليمان الدارانى من العراق , وأمثال ذو النون المصرى من مصر.
وهذا كله ينتهى بنا إلى أن مصدر التصوف الإسلامى لم يكن فارسيا كله....) .
وقد صرح الدكتور عبد الحميد مدكور بما يتفق مع الدكتور طلعت غنام فى هذه الجزئية , فيقول فى عبارات واضحة ينتقد فيها القائلين بالمصدر الفارسى : ( ذهب بعض الباحثين الى أن التصوف الإسلام يرجع الى المصدر الفارسى, وكان من ادلته على ذلك وجود صلات الإجتماعية و ثقافية و دينية بين الفرس والعرب فى المختلف العصور, كما إستدل بأن فريقا كبيرا من شيوخ التصوف الأفذاذ الذين ظهروا فى عصور التصوف الأولى كانو من الفرس, ولعل هذا التفسير لا يخلو من تعسف , لأن الصلات بين الفرس والعرب لم تكن طريقا له إتجاه واحد يمر فيه التأثير من الفرس إلى العرب فقط, بل كان طريق له إتجاهان يتم بواستطهما التأثير المتبادلة بين الفرس والعرب, ويكفى أن الفرس تأثروا باللغة العربية وعلومها و حضارتها, وقد تأثر العرب بالفرس دون شك, ولكن مقدارها هذا التأثر فى نطاق التصوف لم يكن واسعا الى الحد الذى يدعو إلى أن يكون هذا التأثير هو السبب فى وجود التصوف لدى المسلمين.
ومن الحق أن بعض الصوفية كلنو من الفرس , ولكن كثيرا من الصوفية ــ إن لم يكن أكثرهم ــ كانو من غير الفرس , أى من العرب وغيرهم من الشعوب التى أسهمت فى تكوين الحضارة الإسلامية و علومها و منها التصوف, ويدلنا تاريخ التصوف على أن بعض الصوفية العرب كان لهم تأثير كبير فى صوفية الفرس أنفسهم , ومن أمثالة ذلك محى الدين ابن عربى الذى تأثرت به الشخصيات عديدة من شخصيات التصوف الفارسى.
فالمصدر الفارسى ــ إذن ــ لا يصلح ــ وحده ــ لتفسير نشأةالتصوف فى جملته , وإن صلح لتفسير جانبا منه) .
ومن هنا فإننا فى مسألة التأثير و التأثر يجب الا نكتفى بمجرد التشابه : لأن هذا التشابه قد يرجع ــ أحيانا ــ إلى تشابه السلوك الإنسانى إزاء موقف من المواقف أو المشكلة من المشكلات, ومثل هذا التشابه العفوى ليس له قيمة فى الحكم بالتأثير و التأثر , ولذلك ينبغى البحث عت أدلة أو قرائن تاريخية تدل على الاتصال المباشر أو غير مباشر , بل إن الدقة توجب عدم الاكتفاء بمجرد الإتصال , بل لا بد من التأكد الحقيقى من وجوده , لأن التوافق لا يعنى المطابقة دائما , بل أكثر من ذلك فإن وجود اتصال بطريقة ما لا يدل ــ ضرورة ــ على العنصر المستعار يكتسى هنا أو هناك نفس المعنى , لأن ذلك لا يعنى ــ دائما ــ إلحاقة فى الروح و الاستلهام بمصدر التأثير. .
ورغم ذلك فإننا لا نقول بنفى تأثير السابق فى اللاحق حتى نفى مطلقا, بل إننا وجدنا من بعض الدارسى التصوف الذين لم يقتصروا على دراسته فحسب بل وصل بهم الآمر الى سلوكه عمليا ــ وجدنل منهم ــ جرأة أدت الى الإعتراف بتسرب الأفكار الأجنبية إلى ميدان التصوف الإسلامى , وفى ذلك يقوم المرحوم الدكتور أبو الفا التفتازانى بعد القيامه بالرد على القائلين بأخذ التصف الإسلامى من النصرانية : ( ومع هذا لا تنكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية على ما نجد عند الحلاج الذى إستخدم فى تصوفه اصطلاحات المسيحية كالكلمة و اللاهوت و الناسوت وما إليها , ولكن هذا لا يظهر الا فى وقت متأخر ( أواخر القرن الثالث الهجرى ) بعد أن كان ذهد الذهاد قد استقر فى القرنين : الأول و الثانى الهجريين, وأصبح دعامة لكل تصوف لاحق.
ولذلك فإن من الإنصاف العلمى القول بأن مذاهب الصوفية فى العلم , ورياضتهم العملية ترد الى مصدر الإسلامى , الا أنه بمرور الوقت , وبالحكم التقاء الأمم , و احتكاك الحضرات تسرب إليها شيئ من المؤثرات المسيحية أو غير المسيحية , فظن بعض المستشرقين خطأ أن الصوفية أخذوا أول ما أخذوا عن المسيحية) .
ثم يفصل المسألة أكثر فيذكر مصادر أخرى غير المصدر النصرانى , فيقول : ( ونحن لا ننكر الأثر اليونانى على التصوف الإسلامى , فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة , والأفلاطونية المحدثة خاصة الى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل , أو الإختلاط مع رهبان النصارى فى الرها و حران , وقد خضع المسلمون ليلطان أرسطو, وإن كانو قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصى حينما ترجم الكتاب المعروف بـ ( أتوليجيا أرسطو طاليس ) قدمه الى المسلمين على أنه لأرسطو على حين أنه مقتطفات من تسوعات أفلوطين .
وليس من شك فى أن فلسفة أفلوطين السكندرى التى تعتبر أن المعرفة المدركة بالشهادة فى حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس كان لها أثرها التصوف الإسلامى فيما نجده من كلام متفلسفى الصوفية عن المعرفة , وكذلك كان لنظرية أفلوطين السكندري فى الفيض وترتب الموجودات عن الواحد أو الأول أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب كالوحدة كالسهروردىالمقتول , ومحى الدين بن عربى , وابن الفارض , وعبدالحق بن سبعين , وعبد الكريم الجيلى , ومن نحا نحوهم .
ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة ــ العقل الأول ــ العقل الكلى ــ العلة والمعلول....) .
و الدكتور التفتازانى ــ عليه رحمة الله ــ يشير فى غير موضع الى التصوف الإسلامى فى فترة نشأته , و بو اكيره الأولى , والى صدور المعطيات الإسلامية , ونقاء أصوله من كل دخيل , وهو يتفق فى هذا مع أكثر دارسى اللتصوف المحدثين , الذين كانوا إمتدادا صادقا لشيوخ الصوفية الأولين , ومؤرخى التصوف الأقدمين , وهو موضوع الفقرة القادمة.